وإذا كان الإمام الخميني (الراحل) قد مثل الرمز في الثورة الإسلامية التي تكللت بالانتصار الكبير في شباط 1979 انطلاقاً من الموقع القيادي الفاعل، اعتباراً من الخطوة الأولى المتمثلة بتوجيه الثورة بمسارها السليم، وحتى قطف ثمار الانتصار بعد ما يقارب الستة عشر عاماً ـ إذ كان ذلك ـ فإنّ مرحله ما بعد انتصار الثورة كانت تطبيقا عملياً، لم يشوبه لبس أو غموض لمفاهيم الثورة مفرداتها وأفكارها ليس في السياسة فحسب، بل إننّا شهدنا هذا التلاقي والتجانس في الاقتصاد والثقافة والعلاقات الاجتماعية
لكل ثوره رموزها، ولكل مرحله تاريخيه سماتها وخصائصها التي قد تتشابه أو تتماثل مع سمات وخصائص مرحله تاريخية أخرى بحكم المصادفات مرة، واستناداً إلى التقليد والمحاكاة مرة أخرى ورموز الثورة ـ أية ثورة ـ غالباً ما يقع على عاتقهم تحديد الأطر العامة وتوجيه المسارات الهامة للمراحل التاريخية التي تعد منعطفات حيوية يتطلب التعامل معها قدراً عالياً من اليقظة والحذر والحكمة والدراية.
وإذا كان الإمام الخميني (الراحل) قد مثل الرمز في الثورة الإسلامية التي تكللت بالانتصار الكبير في شباط 1979 انطلاقاً من الموقع القيادي الفاعل، اعتباراً من الخطوة الأولى المتمثلة بتوجيه الثورة بمسارها السليم، وحتى قطف ثمار الانتصار فإنّ مرحلة ما بعد انتصار الثورة كانت تطبيقا عملياً، لم يشوبه لبس أو غموض لمفاهيم الثورة ومفرداتها وأفكارها ليس في السياسة فحسب، بل إننا شهدنا هذا التلاقي والتجانس في الاقتصاد والثقافة والعلاقات الاجتماعية وحتى في تحديد موقع الفرد داخل المجتمع وقيمة لا وفقا لما ينتجه، وإنما وفقا لقيمته الإنسانية العليا بل والأكثر من ذلك فإنّ ظلال المتغيرات الجديدة راحت تمتد بعيدا في أصقاع العالم الإسلامي لتمنح الثورة بعدا عالميا ولتجعل من الإمام الخميني مثالا عظيما للثائر والقائد السياسي في آن واحد.
الرحيل لا يعني النهاية!
وبعد عشرة أعوام من عمر الثورة رحل الإمام ليترك ثورة ودولة ومجتمع جديد وعالم أنظاره شاخصة إلى ما جرى وما يزال يجري بشكل يتغير يوما بعد آخر، ولكن هل رحيله كان يعني النهاية.؟
في حقيقة الأمر ربما بدا للبعض انه كذلك. سيما وإن تحولات كبرى طرأت على أجزاء بالغة الأهمية من خريطة العالم بدأت معالمها تظهر وتتجلي في الأفق بعد الرحيل بفترة قصيرة ـ فضلا عن النتائج التي آلت إليها أوضاع سياسية معينة كانت تعيشها المنطقة وتواجهها لسنين عدة.
بيد أنّ النظرة الموضوعية والتعامل مع الوقائع بإطارها العام الشامل، وبعمق علمي تكشف لنا أنّ التأثير الفعلي للإمام الخميني في مختلف مناحي الحياة وجوانبها، وليس في إيران فحسب بقي كما كان قبل رحيله إن لم يكن قد اتخذ بعدا شموليا واكبر.
فالقضايا الرئيسية محور اهتمامه والتي تمثلت أساساً بالعمل على تحقيق الاستقلال والوحدة الإسلامية، وإقامة المجتمع الإسلامي الصالح، ومقارعة القوى الكبرى المعادية للعالم الإسلامي والساعية إلى مصادرة قيمه وثرواته، واستعباد شعوبه، هذه القضايا ما تزال تحتل الحيز الأوسع في برامج العمل السياسي والاجتماعي والفكري للقيادة الإيرانية، ليس لان المرحلة الحالية لم تختلف في معالمها وملامحها عن المرحلة السابقة، بل لأنها ـ أي القضايا ـ تعدد ثوابت أساسية في الفكر والمنهج الذي إرساء الإمام للثورة الإسلامية.
موقع الثقافة في فكر الإمام الخميني
لقد شكل الجانب الثقافي احد ابرز اهتمامات الإمام الخميني الراحل إذ اعتبره مفصلاً مهماً جداً من مفاصل قوة الدولة الإسلامية ومنعتها، وهي تواجه مخاطر ومؤامرات شتى تهدد وجودها واستمرارها ...
فالذي حدث أبان الثورة الإسلامية جسد قدرة الإسلام على مقاومة كل المخططات الرامية إلى إبعاد الأمة عن ثقافتها الأصيلة، حيث أنّ الجماهير المسلمة وقفت بوجه الإرهاب ورفضت رفضا قاطعاً مظاهر الفساد والتحلل الأخلاقي.
وكان الإمام الراحل يري انه «بمقدور الجامعات ـ كأحد ابرز المعالم الثقافية في المجتمع ـ أن تغمر العالم بالنور إن قرنت التعليم بالخلق الإنساني وبمسايرة الفطرة الإنسانية. وإذا فصلنا العلم والتخصص عن الأخلاق والتهذيب والوعي والالتزام فإنّ ذلك يؤدي إلى بروز مفاهيم وأفكار غريبة علينا تجتاحنا من الغرب والشرق وتنقض على قيمنا وعقائدنا وأفكارنا»[1].
وفي نفس السياق فإنّ الإمام الخميني «يدعو إلى توقف الجامعة التقليدية عن العمل، وتجميع الطاقات نحو تأسيس جامعة إسلامية جديدة»[2]، وهي ذات الدعوة التي أطلقها قبل أكثر ما مائة عام عبدالرحمن الكواكبي ومفكرون إسلاميون آخرون إلاّ أنّ الدعوة الجديدة أخذت بعين الاعتبار طبيعة المرحلة التاريخية المعاصرة وجوهر الصراعات القائمة والقوى المحركة لتلك الصراعات والموجهة لها.
وارتباطا بهذا الجانب فإنّ صياغات جديدة لواقع العلاقات الاجتماعية فرضت نفسها على كافة النبى والهياكل القائمة فضلاً عن المؤسسات التي لها دور في عملية التثقيف ونشر الوعي كمحطات التلفزيون والإذاعات والصحف والمجلات والمنتديات الفكرية ذات الطابع الرسمي أو غير الرسمي.
وقد تكون أبعاد الغزو والاختراق الفكري ـ الثقافي اشد خطرا على المسلمين من الغزو العسكري والحصار الاقتصادي كما يشير الإمام الخميني بقوله «مأساة المسلمين الكبرى تتمثل في هذه الثقافة الشائعة بين المسلمين والتي تجر شبابنا إلى هذا الجانب وذلك الجانب … ويتوجب على علماء الإسلام وعلى الكتاب والخطباء أن ينبهوا الأمة الإسلامية إلى ما لديها من ثقافة غنية ـ ثقافتنا ـ والكلام للإمام ـ استطاعت أن تتجاوز حدود عالمنا الإسلامي، ثقافة المسلمين كانت أغنى الثقافات ولا زالت كذلك لكن المسلمين لم يستفيدوا منها مع الأسف ... نحن لا نخشى المحاصرة الاقتصادية، ولا نخشى الغزو العسكري، خوفنا من التبعية الثقافية ... خوفنا من الجامعة الاستعمارية، نخاف من جامعة تربي شبابنا بشكل تجعلهم في خدمة الغرب، نحن نخاف من جامعة تربي شبابنا بشكل تجعلهم في خدمة الشيوعية»[3].
دولة الإسلام العالمية
وإذا كان اهتمام الإمام الخميني بالجانب الثقافي كبيرا فإنّ اهتمامه بموضوعة الدولة الإسلامية العالمية، والوحدة الإسلامية لم يكن هامشيا أو عابرا، ولعل ذلك بدا واضحا في طبيعة وجوهر ومضمون الخطاب السياسي للثورة الإسلامية الإيرانية، فمفردات من قبيل محاربة الظلم، وتحقيق العدالة ونصرة الشعوب الإسلامية المستضعفة، والتأكيد على القيم الروحية، بدلا من القيم المادية تشير في الحقيقة إلى شمولية المشروع، واتساع مساحة الاهتمام والتفكير، سيما وان الشعوب الإسلامية كانت أبان انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني تواجه تحديات خطيرة، ربما كان أبرزها رجحان كفة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في فلسطين لصالح الكيان الصهيوني والغزو السوفيتي لأفغانستان أواخر عام 1979، فضلاً عن النزعة الديكتاتورية القمعية ـ الإرهابية لمعظم الأنظمة السياسية العلمانية المتسلطة على مجتمعات المسلمين، الإمام الراحل ينظر إلى تلك القضية من زاويتين.
الأولى: إقامة حكم الله والذي أساسه الإسلام، حيث يقول بهذا الشأن «إن تمادي الحكومات في غيها يعني تعطيل نظام الإسلام وأحكامه. في حين توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير إسلامي بأنه شرك، والحاكم ـ أو السلطة فيه ـ طاغوتا، ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم»[4].
هذه النظرة ترتبط عل ما يبدو بمفهوم الثورة باعتبار إنها الخطوة الأولى لعملية التغيير المجتمعي الشامل من القمة إلى القاعدة، وهي تتطلب بالدرجة الأساسية مساهمة المجموع للوصول إلى الأهداف المرسومة ...
الثانية: القضاء على الاستعمار كمفهوم سلبي، وتاريخ ممتد لفترات طويلة، مليء بالاضطهاد والظلم ومصادرة ثروات الشعوب المسلمة، وترسيخ واقع التجزئة والتخلف والانحطاط وضمن هذا الإطار يقول الإمام الخميني (رض) «لقد جزا الاستعمار وطننا، وحول المسلمين إلى شعوب مجزئه، وعند ظهور الدولة العثمانية كدولة موحدة سعي المستعمرون إلى تفتيتها، لقد تحالف الروس والانجليز وحلفاؤهم وحاربوا العثمانين، ثم تقاسموا الغنائم كما تعلمون، ونحن لا ننكر أنّ أكثر حكام الدولة العثمانية كانت تنقصهم الكفاءة والجدارة والأهلية، وبعضهم كان مليئا بالفساد، وكثير منهم كانوا يحكمون الناس حكماً ملكياً مطلقاً، ومع ذلك كان المستعمرون يخشون أن يتسلم بعض ذوي الإصلاح والأهلية من الناس وبمعونة الشعب قيادة الدولة العثمانية على وحدتها وقدرتها وقوتها وثرواتها فيبدد كل آمال الاستعماريين وأحلامهم»[5].
ويضيف الإمام الخميني الراحل في معرض تحليله ورؤيته لموضوعه الوحدة الإسلامية «إننا لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمة الإسلامية وتحرير أراضيها من يد المستعمرين، وإسقاط الحكومات العميلة لهم إلا أن نسعى إلى إقامة حكومتنا الإسلامية، وهذه بدورها سوف تكلل أعمالها بالنجاح يوم تتمكن من تحطيم رؤوس الخيانة وتدمر الأوثان والأصنام البشرية والطواغيت التي تنشر الظلم والفساد في الأرض ...»[6].
الحكومة الإسلامية والوحدة الإسلامية
من هذا المنطلق فإنّ الحكومة الإسلامية تعد احد المقومات الأساسية ـ الرئيسية ـ لتحقيق الوحدة الإسلامية سواء على الصعيد النظري أو العملي، فالكيان الإسلامي الموحد في زمن الرسول الكريم (ص) وكذلك بعد وفاته حيث غدا هذا الكيان مترامي الأطراف ـ شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً ـ ذلك الكيان محكوما بسلطة مركزية ـ سياسية ـ دينية توجه الأمور وتسيرها استناداً إلى آليات عمل لا تختلف كثيراً من حيث إطارها العام عن شكل الحكومات والنظم القائمة حالياً، رغم اختلاف الوظائف وطبيعة ممارستها ودرجة تعقيدها.
وبهذا الشأن يؤكد الإمام الخميني (رض) في كتاب «الحكومة الإسلامية» «إنّ حكومة الإسلام هي حكومة القانون، فالفقيه هو المتصدي لأمر الحكومة لا غير، فهو ينهض بكل ما نهض به الرسول (ص) لا يزيد ولا ينقص شيئا، فيقيم الحدود كما أقامها الرسول (ص) ويحكم بما انزل الله»[7].
ويضيف الإمام الخميني الراحل في كتابه المذكور بان «حكومة الإسلام هي حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده، وهو المشرع وحده لا سواه وحكم الله نافذ في جميع الناس وفي الدولة نفسها»[8].
ماذا يعني ذلك؟ بعبارة أخرى يعني أنّ الحكومات أو الدول الإسلامية رغم تعددها فهي تلتقي عند قواسم مشتركة عديدة، أبرزها وأهمها هو وحدة مصدر التشريع، وتماثل القوانين، وبالتالي التناغم والانسجام بين النظرية والتطبيق عند مستوى معين من المستويات، والذي يقود بدوره إلى الاقتراب أكثر فأكثر من تحقيق الوحدة الإسلامية بين شعوب ومجتمعات قد تختلف فيما بينها في اللغة والثقافة والنظم الاجتماعية وتفصل بينها مسافات شاسعة إلاّ أنّ نقطة التقائها هو الإسلام باعتباره المنظومة الأشمل والأكمل ـ والبوتقة التي ينصهر فيها الجميع ـ وتستوعب الجميع.
الهوامش
[1]ـ الاستقلال الثقافي: طريق الثورة نحو الأصالة الإسلامية، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إعداد محمد على حسين، 1402 ه ـ ص 14.
[2]ـ المصدر السابق، ص 15.
[3]ـ المصدر السابق، ص 35.
[4]ـ الحكومة الإسلامية: منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى، دروس فقهية ألقاها الإمام الخميني على طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف في عام 1389 ه
[5]ـ المصدر السابق، ص 34.
[6]ـ المصدر السابق، ص 72.
[8]ـ المصدر السابق، ص 42.