بسم الله الرحمن الرحيم
نحن على اعتاب حادثتين عظيمتين، في شهر رجب الاجل، كان لهما في تاريخ الانسانية جمعاء، اثرا لا تزال بوارقه سارية لحد الان والى يوم الحشر، بما حملتا من عزة ورفعة للاسلام والمسلمين في كافة انحاء العالم، لا سيما، في شبه الجزيرة العربية، التي استشفت من مرض عضال، بعد جاهلية سوداء، حالكة الظلام، تستتر بكل ما لديها، بالطغيان والجهل وعبادة الاوثان، والاستقسام بالازلام، لتوفير ارضية وتمهيد طريق، لنفوس نفرت من فطرتها، وقلوب عليها اقفالها ...! فاذا ما ارادوا القيام بعمل ما، توجهوا لدمى ثلاث صنعتها ايديهم، اولها: افعل، وثانيها: لا تفعل، وثالثها: غفل لا شيئ فيه !، فان اصابوا احدها ... عملوا بما امرهم به ! وهم في ذلك راضون، منشرحون ! ... وغزواتهم، يسوقون فيها الابل والماشية ... ويسبون النساء ... غنائم، بعد اراقة دماء من اغاروا عليهم ... وحروبهم الممتدة الى سنين وسنين، حتى يدركها الاطفال شبابا، متوغلين فيها، بسيوفهم ودروعهم، ومحلقين رؤوسهم، بعلل تافهة، جعلتهم هدفا للاستهزاء والاستخفاف بعقولهم ! كحرب البسوس التي استمرت اربعين عاما، من اجل ناقة ارداها احدهم قتيلة !، حيث تذكر الروايات انها اطول حرب في تاريخ العرب ! ... وحرب داحس والغبراء، وهما فرسان تراهن عليهما البعض في السباق، وقد دامت مدة طويلة ... وقبرهم للمولودات الرضع، لانهن بنات ! ... " واذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ." _ (1)، وغير ذلك اكثر بكثير طفحت به صفحات التاريخ !، فاراد الله تعالى بمنه ورحمته الواسعة، ان ينقذهم مما هم فيه من مستنقع الضلالة والشرك، الى الاسلام والايمان والطريق القويم، بامين يعيش بين ظهرانيهم، عرفوه منذ نعومة اظفاره، وما راوا فيه غير الشرف الرفيع، العظمة، العطوفة، والمروءة باكملها، فقام بما امره الله تعالى به، بشيرا ونذيرا لامته، وهاديا الانسانية الى مسار الحقيقة الناصعة، حاملا بيرق دين جديد، كامل، لكل انسان يرنو الى مستقبل زاهر، وحياة مفعمة بالمساواة والاخوة، وان لا يعلو احد على اخر، والشعار الاوحد هو: " يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ..." _ (2) ... وهكذا جاءت البعثة النبوية الشريفة، وجاء الرسول الاعظم (ص) مبعوثا، ليرتقي بالانسان التائه، الذي اضاع نفسه بنفسه، واسلم امره لوثنيين لا يدركون غير ما يعبدون من اوثان ! ... وعانى (ص) ما عانى من اذى، خاصة من الاقربين، وتعرض هو واتباعه الى صنوف المطاردة والتامر، الى ان اغدق الله عز وجل عليهم، نعمه السابغة، بانتصارهم في بدر ... وتوالت الانتصارات، واحدة تلو اخرى، واستقر بهم المطاف في يثرب، المدينة التي اصبحت منورة، بالنبي( ص) واصحابه المهاجرين، حيث احاط بهم اهاليها، وهم الانصار، بما لديهم من حنو وارادة، وكانوا خير جند للداعي الجديد لدين الله تعالى الجديد، وقد طلع البدر عليهم من ثنيات الوداع ... " لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم اياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين " _ (3) ... وتوالت الاحداث تترى ... ودخل الرسول الاعظم (ص) مكة فاتحا، رحيما بنداء: اليوم يوم المرحمة ... (4) ... مهشما اصنام العرب المشركين داخل الكعبة ... ف " الازمنة بذاتها ليست لها اية ميزة على بعضها البعض. الزمان موجود، سار، متحرك، متعين لا يختلف اي مقطع فيه عن المقطع الاخر، انما شرف الازمنة او شؤمها بسبب ما يقع فيها من احداث. اذا كان شرف الزمن بسبب الحادثة التي وقعت فيه، يجب ان اقول، ان بعثة الرسول الاكرم (ص)، ليس ثمة يوم اشرف منه على طول الدهر (من الازل الى الابد)، اذ لم تقع حادثة اعظم من هذه الحادثة. وقعت احداث كبيرة للغاية، بعثة الانبياء العظام، الانبياء اولي العزم، والكثير من الاحداث الكبيرة، ولكن لم تكن هناك حادثة اعظم من بعثة الرسول الاكرم (ص) في عالم الوجود، سوى الذات المقدسة للحق تعالى، ولا توجد حادثة اعظم من بعثته " _ (5) ... وازر الباري جل جلاله، مبعوثه الاعظم (ص)، بابن عمه ووصيه وحامل رسالته، امير المؤمنين (ع) فكان خير خلف لخير سلف. لقد تلاقت حادثتان باهرتان في شهر رجب الكريم، مبعث منقذ البشرية وميلاد الوصي والخلف الصالح ... واقترن الشهر الاغر، بهما تيمنا. روي عن محمد بن ادريس الشافعي، امام المذهب، المتوفى سنة 304 للهجرة، وهو استاذ ابن حنبل وشيخه في الفقه والحديث والرواية، انه قال في جواب من ساله عن علي (ع)، " ما اقول في فضائله لان اعداءه اخفوا فضائله، بغضا وغيضا وحسدا، واولياءه اخفوها، على انفسهم وقتلا، ومع هذين الامرين من الفريقين، قد ظهرت له من الفضائل والمناقب ما امتلات منه الخافقين " _ (6) ... فوليد الكعبة، وان تضاربت الاراء، منذ تلك الفترة الى الان، حول شخصيته الفذة، وما قام به من خدمات للاسلام والمسلمين، ورفعة للامة الاسلامية على امتداد جغرافياتها، حتى بما يقطنها من اتباع الديانات الاخرى، من مؤيد ومعارض وواجم على مفترق طريق ... فقدتضاءلت وقزمت، امام وصي رسول الله (ص) وخليفته، ولم تستطع حتى بلوغ ادنى حد من حدوده. عن ابي محمد عبد الله بن الحسين، الشيخ الصالح، قال: حدثنا محمد بن الاعرج، قا ل: حدثنا ........عن زيد القاشي، عن انس قال: قال رسول الله (ص): " اذا كان يوم القيامة ينادون علي بن ابي طالب (ع) بسبعة اسماء ... يا صديق، يا دال، يا عابد، يا هادي، يا مهدي، يا فتى، يا علي ... " _ (7) ... وما غدير خم، الا شاهد اخر، على ما يتمتع به اسد الله الغالب، علي بن ابي طالب (ع) وهو القائل: " ايها الناس، سعرت النار، واقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، واني والله ما تمسكون علي بشيئ، ان لم احل الا ما احل القران، ولم احرم الا ما حرم القران. " _ (8) ... فمن للامة الاسلامية، اليوم، غير امير المؤمنين (ع)، واتباعه الصالحين كالامام الخميني (قدس سره)، الذي قاد امته، على نهج علي (ع) بثورة اسلامية، عارمة، اكتسحت الفين وخمسمائة عام، من الظلم والجور والانحراف واعادت للاسلام حقيقته الساطعة، بعدما تمادت عليها انظمة الاستبداد، بكل ما استطاعت من تحريف وتزوير وتلفيق. قال سماحته (قدس سره): " نحن نعجز عن ذكر الابعاد المعنوية لامير المؤمنين (ع)، فلا نتمكن من قول جملة واحدة مطابقة للواقع بشانها، لكن يمكن التحدث حول بعض الابعاد المادية والاجتماعية ... كان له نعل يخصفه بنفسه، ولما يسال عن ذلك يقول: ما قيمة هذا النعل ؟ فيجاب: لا قيمة له، فيقول( ع): والله لهي احب الي من امرتكم، الا ان اقيم حقا او ادفع باطلا ... اي خليفة في الارض يشبه وضعه، وضع امير المؤمنين (ع) ؟ " _ (9) ... فاين نحن، اذن، من جبل شامخ وعلم عال، لا يزال خفاقا، مرفرفا على رؤوس المسلمين، بل والانسانية اجمع ؟ ... قال فيه الباحث والمحقق الكبير، شبلي شميل، وهو مسيحي من لبنان (1853_ 1917): الامام علي بن ابي طالب، عظيم العظماء، نسخة مفردة، لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الاصل، لا قديما ولا حديثا. " _ (10)، وقد مدح النبي (ص)، منشدا:
اني وان اك قد كفرت بدينه
هل اكفرن بمحكم الايات ..؟
او ما حوت في ناصع الالفاظ
من حكم روادع للهوى وعظات
.............
نعم المدبر والحكيم وانه
رب الفصاحة، مصطفى الكلمات
..............
من دونه الابطال من كل الورى
من غائب او حاضر او ات. (11)
ففي الثالث عشر من شهر رجب المكرم، والسابع والعشرين ... وقعت تلك الحادثتان، اللتان هزتا العالم وقلبته، فبهت الوثنيون بماضيهم وحاضرهم ... ولا يزالون كذلك ...
قد قلت للبرق الذي شق الدجى
فكان زنجيا هناك يجدع
يا برق ان جئت الغري فقل له
اتراك تعلم من بارضك مودع
فيك ابن عمران الكليم وبعده
عيسى يقفيه واحمد يتبع
بل فيك جبريل وميكال واس
رافيل والملا المقدس اجمع
بل فيك نور الله جل جلاله
لذوي البصائر يستشف ويلمع
فيك الامام المرتضى، فيك ال
وصي المجتبى، فيك البطين الانزع. _ (12).
________
1- الاية 58، النحل.
2- الاية 13، الحجرات.
3- الاية 164، ال عمران.
4- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج 17، ص 272.
5- صحيفة الامام العربية، ج 12، ص 338.
6- المحدث الجليل والشيخ الفقيه ابن شاذان، مائة منقبة من مناقب امير المؤمنين (ع) ...ص 13.
7- اخرجه الخوارزمي في كتابه: المناقب، ص 228 باسناده الى ابن شاذان و....
8- سيرة ابن هشام، ج2، ص 654.
9- صحيفة الامام العربية، ج 20، ص 406.
10- الامام علي صوت العدالة الانسانية، جورج جرداق، ج1، ص 37, دار الفكر العربي، بيروت.
11- محمدو القران، الشيخ كاظم سلمان ال نوح، ص 181، المطبعة العربية، بغداد.
12- من قصيدة طويلة لابن ابي الحديد، مجموعة الروضة المختارة، القصيدة العينية، دمشق.
_____
د. سيد حمود خواسته، القسم العربي، الشؤون الدولية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني (قدس سره) .