بالنظر لما تتمتع به الاسرة، منذ القدم، من مكانة اجتماعية رفيعة وبما تلعبه من دور هام جداً في تشكيل واستمرارية وسلامة المجتمع، فقد كانت الحجر الاساس في تكوين المجتمعات الانسانية الاولى، مما لفت اليها انظار المصلحين والقائمين على هداية المجتمعات وحُماة الانسان ورفعته الحقيقيين، اَيْ، الانبياء الالهيين الذين كان واجبهم صياغة وتعالي الانسان. لقد وضع الدين الاسلامي المبين تعاليم جمّة، هامة في هذا المجال، واعطى مجموعة الاسرة، قداسة خاصة وقِيَماً معنوية رفيعة، ووجّه اهتماماً خاصاً لتشكيل الاسرة، مما بعث على تواجد وظهور مباحث كثيرة، شاملة ودقيقة، وعرض مناهج وارشادات، فيما يتعلق باختيار الزوج ومسألة الزواج، كأول حجر لبناء تكوين العائلة وتواجدها، مما يدل على رؤية الاسلام حول ذلك، على انه امر مؤكد، مقدس، رئيسي وطبيعي بصورة كاملة... من هذا المنطلق، يرى الامام الخميني (قدس سره) باعتباره احد علماء الاسلام، ان الدين بما يتضمنه، اصدق واكمل برنامج حياة فردية واجتماعية، لتلبية احتياجات الانسان الغريزية والفطرية، سواء في الدنيا او الآخرة.
ما يلي نموذج لرؤية الامام الخميني (قدس سره) في هذا الحقل، حول تشكيل الاسرة:
"فالاسلام قد وضع برنامجاً دقيقاً ومفصلًا لحياة الانسان الفردية بدءاً من الفترة السابقة لولادته، ومروراً بجميع المراحل التي يمضيها ضمن العائلة. كما وضع البرامج لمجتمع العائلة، وعين الاحكام والقوانين لكل جوانبها ومراحلها، ثم يتابع الانسان بعد خروجه من العائلة للدخول في مجال التعليم، وحتى دخوله المجتمع الكبير، ووضع القوانين التي تنظم حياة المجتمع المسلم، بل وحتى القوانين والبرامج التي تنظم علاقة الدولة الاسلامية مع سائر الدول والشعوب. كل ذلك له أحكام في الشريعة المطهرة." (صحيفة الامام، ج2، ص31).
بالطبع ان نسيج الحياة الاجتماعية، يتحقق بمسألة الزواج، فهو امر فطري لدى كافة المخلوقات، تحتاج اليه، للركون الى شريك، خلال الحياة، اِلاّ ان ذلك في الاسلام، يحظى بقيمة معنوية خاصة، لتثبيت اساس العائلة واستمرارية وبقاء تواجد جيل بعد أخر، كواجب هام جداً، ادّى الى وضع لوائح واصدار اوامر شاملة، تطرق اليها سماحة الامام:
"أما الإسلام، فهو يحدد لكل من والديه قبل زواجهما الشروط التي يجب توفرها في الطرف الآخر. والسبب هو أن هذين الزوجين هما منشأ ظهور فرد واحد أو مجموعة من الأفراد، والإسلام يريد أن يكونوا من الصالحين في المجتمع ولتحقيق ذلك يحدد الصفات اللازمة في الزوجة والزوج والأعمال والأخلاق التي ينبغي توفرها على الأسرة التي تربيا فيها، ويحدد أسلوب تعاملهما بعد الزواج وآداب الولادة وحضانة الطفل. والهدف من كل هذه الآداب هو أن تكون ثمرة هذا الزواج موجوداً صالحاً للمجتمع وليتم بذلك إصلاح أوضاع العالم كله. هذا ما تقوم به شريعة الإسلام الهادفة إلى تربية الإنسان الحقيقي، ولذلك بدأت بالتمهيد لذلك حتى قبل انعقاد نطفته، فمدّت توجيهاتها لما قبل الزواج وآدابه، ثم عينت آداب الولادة وما بعدها خلال الرضاعة ومعاملة الوالدين للطفل رضيعاً وصبياً في المدرسة الابتدائية وصفات معلميه ومربيه فيها. ثم توجه الخطاب إليه هو نفسه عند بلوغه الاستقلال والاعتماد على نفسه، فشرعت الأعمال والفرائض التي يجب عليه القيام بها. والهدف من كل ذلك هو أن يتربى جميع أفراد المجتمع تربية صالحة، وبالطبع لم يتحقق ما أراده الإسلام إلا الشيء القليل ولو تحقق كلّ ما أراد، لما كانت السرقات أو الخيانات أو نظائرها الموجودة الآن ولما اعتدى أحد على آخر. إن ما نطالب به هو تحقق هذه الأهداف التربوية." (صحيفة الإمام، ج5، ص 224-223).
الملاحَظ ان هناك عواملَ تتصدر تشكيل الاسرة المفضلة، حسب رؤية الامام الخميني (قدس سره)، اولها عامل التأكيد على الزواج، ويتضمن عدة اهداف، من بينها:
- اختيار الزوج او الزوجة: الدقة في هذه المسألة، واختيار الشخص المناسب لذلك، وضمان بقاء الاسرة واستمراريتها واستحكام نسيج تركيب العائلة وابتعادها عما تتعرض له من اخطار.
- خلال ذلك، يتوجب الالتفات الى ما يتمتع به كل واحد منها، بما لديه ذاتياً من ميّزات، او بالمقارنة مع الآخرين، من حيث الاخلاق، الاعمال، الحالة الثقافية والعائلية.
- حسب رؤية الامام الخميني(قدس سره)، تتمتع مرحلة مابعد الزواج بأهمية خاصة، فيما يتعلق بروابط الزوجين فيما بينهما في حياتهما المشتركة، وباقي المراحل التي تتبع ذلك، من انعقاد النطفة وفترة الحمل والسلوك والتغذية حتى الولادة والعناية بالطفل... كل هذا حسب نظر سماحته، مقدمة لولادة انسان، ومن ثم خضوعه لتربية فردية صالحة، ليكون صالحاً في مجتمعه وليصلح العالم كله بعد ذلك.. وهكذا فالامر واضح، ان الانسان الذي ينشأ في اسرة مفضلة، له دور مصيري يبعث على سلامة حياة الناس.
ان المتتبع لسيرة الامام الخميني (قدس سره) ويُمعن النظر في رؤية سماحته، يتجلّى له التأثير البالغ لرؤية الامام في المجتمع وماكان يرنو اليه، بهدف الاهتمام بذلك واعتباره حلاً لكثير من المشاكل والمصاعب التي تُواجه الانسان خلال حياته، وهو حجر اساسٍ لاسرة سعيدة مفضلة، منها: رعاية ما يأمر به وينهى عنه الشارع المقدس، خاصة فيما يتعلق بتربية الانسان، الى جانب احترام وتكريم الاسرة واعضائها. (ولاية الفقيه ف، ص29، وصحيفة الامام ف، ج6، ص201-200 و...)... على هذا الاساس ان حُسن سلوك افراد الاسرة فيما بينهم (صحيفة الامام ف، ج4، ص 451-450 و ج 5 ص 328-327 و...)، وتربية انسان ذي اخلاق، بالطبع بما يراه الدين، كأنسان: صالح، عادل، اجتماعي، مهذب، مناضل وفي الوقت نفسه محب للأخرين وغير ذلك من الصفات الحسنة، كلّ له دور في هذا الحقل. (انظر: 1- كتاب جايكاه زن در انديشه امام خميني (س)- تبيان دفتر هشتم- 2- كتاب هم نفس بهار).
من حيث العمل، حسب ما نُقل عن سماحته من خواطر، يتوضح لنا مايلي:
تبني الحوار والتشاور والاستماع الى نظر الأخرين، المودة والمحبة، العشق والعلاقة، والاهم فيها اظهار ذلك والتحذث به وان تكون حياة بعضها لبعض والالتفات الى مايقوم به الآخر من اعمال شاقة وتكريمه في الكلام والعمل، واتخاذ روحية ولسان شكر واختيار ادبيات مناسبة، ايجابية، خاصة بالنسبة لما يحدث خلال الحياة اليومية، بهدف التعاون ودعم بعضها البعض، وحفظ احترام كافة افراد الاسرة لاسيما الوالدين والام خاصة، في التصرّف والكلام وتبني المسامحة لايجاد محيط هادئ وتوفير الراحة والابتعادعن السّجال اللفظي واستعمال كلمات مثيرة للجدل، وايجاد قيود لامبرر لها. كذلك السعي لتوفير محيط للتنمية الفردية الاجتماعية وتشجيع وترغيب الافراد بالشعور بالمسؤولية تجاه الأخرين والتواجد في الانشطة الاجتماعية... كل ذلك يلتقي على ضوء وفي اطار رؤية العالم على انه محضر دين الله تعالى. (انظر: 1- كتاب برداشت هايي از سيره امام خميني، جلد اول. 2- كتاب بدر مهربان. 3- كتاب هم نفس بهار).
تجدر الاشارة هنا الى عوامل، منها:
1- رغم ان الامام الخميني (قدس سره) كان يؤكدعلى دور الاب والام في الاسرة المفضلة، اِلاّ انه يرى ان للأم دوراً بالغ الأهمية (صحيفة الامام ف، ج 15 ص245 و...) وكدليل على ذلك، نذكر نموذجين لرؤية سماحته في هذا الحقل:
"دور المرأة في المجتمع أسمى من دور الرجل. لأن النساء فضلًا عن كونهن فئة نشيطة في جميع النواحي، فإنهن يربين الفئات الفعالة الأخرى في أحضانهن. خدمة الأم للمجتمع أعلى من خدمة المعلم وهي أعلى من خدمة أي شخص آخر وهذا هو ما كان يريده الأنبياء. الأنبياء كانوا يريدون أن تكون النساء فئة تربي المجتمع وأن تقدم للمجتمع نساء ورجالًا أبطالًا." (صحيفة الامام، ج14، ص157).
"يعتبر حضن الأم خير مدرسة يمكن للطفل أن يتربى فيها، فما يسمعه الطفل من أمّه غير الذي يسمعه من معلمه، فهو يتقبل من أمه أكثر مما يتقبله من أبيه أو معلمه، ولذلك فإن وظيفة الأم وظيفة إلهية إنسانية نبيلة ألا وهي تربية الإنسان." (صحيفة الامام، ج9، ص233).
2- بالمقارنة مع المدارس البشرية غير الالهية، فان سماحة الامام (قدس سره)، يرى، انّ مهمة المدارس الالهية هي القيام بمفردها بصياغة الانسان وتربية على كافة الاصعدة، وغيرها مما يصور عن الانسان ناقص وغير قادر على ذلك.
"هذا نظر الإسلام للإنسان أن يكون الزوج المنتخب صالحاً ليأتي منه إنسان صالح. وأن تكون المرأة المنتخبة صالحةً أيضاً، ليأتي من هذين الزوجين إنسان، ثم بأي ادبٍ يجب أن تكون؟ وعلى ايّ أدب يجب ان يكون هذا الزواج، وفي أيّ حال وأدبٍ يجب أن يتمّ التلقيح، وما هي الآداب الخاصة بالحمل؟ وما هي آداب الرضاعة بعدئذ؟ كلّ هذه الأمور جاءت بها أديان التوحيد التي أسماها الإسلام لتصنع الإنسان، وما جاءت لتصنع حيواناً غير أنه ذو إدراك في حدود تلك الحيوانية ومقاصد حيوانية إلا أنها تزيدُ على ما للحيوان من مقاصد، ما جاءت لتصنع هذه، وإنّما جاءت لتصنع الإنسان." (صحيفة الامام، ج18، ص315).
هكذا.. وعلى عكس مايُتَصّور، عما تتضمنه بعض النظريات والمدارس البشرية من انّ "الانسان ذئب الانسان" – (توماس هابز)، الامام يرسم اطاراً للعائلة المفضلة كما يلي:
"أما الاسلام فهو ينظم شأنك حتى وأنت في بيتك وحيداً، بمعنى أنه يحدد سلوكك هناك ايضاً، ويبين الأخلاق التي يجب أن تتحلى وكيف يجب أن تستفيد من قوتك العقلية وطبيعة سلوكياتك والآداب التي ينبغي ان تتعامل في ضوئها مع اطفالك وكيف يتعامل الابن مع أبيه وأمه وبالعكس، والأخ مع أخيه، وافراد العائلة فيما بينهم ومع العوائل الاخرى، فقد حدد الإسلام آداباً لكل هذه الشؤون. كما أن الاسلام يهتم بالقضايا الاجتماعية التي ترتبط بكافة افراد بني الانسان دون تمييز بين بلد وآخر... وكذلك حال الاسلام فهو دين الجميع بمعنى أنه جاء لتربية كل البشر وفقاً للصورة التي يريد من العدالة، بحيث لا يعتدي إنسان على آخر ولا بمقدار أنملة، لا يعتدي إنسان على ولده أو زوجته ولا تعتدي الزوجة على زوجها ولا أحد الأخوين على الآخر، ولا الرفاق بعضهم على بعض، أنه يريد تربية انسان عادل بكل معنى الكلمة، يكون تفكيره وعقله عقل إنسان، وكذلك ظاهره ظاهراً إنسانياً ومؤدباً بالآداب الإنسانية وهذا ما يريد الاسلام تحقيقه.( صحيفة الإمام، ج4، ص325-324).
لهذا، فالانسان الذي ينشأ في اسرة فضيلة، بثقافة وتربية متعادلة، يصبح محباً لكافة الناس... وعلى الرغم من رؤية هابز فـ (الاسلام يُرَبّي الانسان ليكون محباً للأنسان ويعطف عليه) – (صحيفة الامام ف – ج 8 ص82).
د. سيد حمود خواسته – قسم الشؤون الدولية-
بتصرف عن مقالة لـ: اصغر ميرشكاري- قسم الابحاث.