لم يكن الكثير من الناس يتوقّعوا أن تتحوّل الفكرة أو المبادرة التي دعا إليها الإمام الخميني رحمه الله قبل 45 عاماً تقريباً إلى واحدة من أكبر التظاهرات السياسية الداعمة للقضية الفلسطينية والرافضة للاستكبار العالمي الذي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأميركية ويمثل الكيان الصهيوني رأس حربته المتقدّمة في قلب العالم العربي والإسلامي ، ففي السابع من شهر آب/ أغسطس من عام 1979المصادف للثالث عشر من رمضان عام 1399، ومع بدء الكيان الغاصب للقدس جولة جديدة من الاعتداءات الوحشية على لبنان وارتكاب مزيد من الجرائم البشعة فيه، بادر الإمام الخميني الراحل (قدس) إلى إعلان آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس داعياً كافة مسلمي العالم للتضامن الإسلامي في هذا اليوم العظيم.
إن الملفت للأنظار أن دراسة وتتدبر الإمام الراحل لهذا اليوم لم يكن جزافا أو عفويا بل استنبطه من كتاب الله تعالى وبكل دقة فجعل ثلاث مقدسات أمامه في اختيار هذا اليوم المبارك حيث المقدس الأول هو الشهر المبارك لرمضان مصدقا لقوله تعالى :" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ" - سورة البقرة- الآية 185 ويليه المقدس الثاني و يتمثل في اليوم المبارك وهو يوم الجمعة حيث يقول المولى عز وجل:" يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" الجمعة-الآية 10 والمقدس الثالث هو المكان حيث بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير "الإسراء- الآية 01.
ومما تم ذكره انفا يتبين لكل بصير وبدون أي ادنى شك أن المتتبع لجزء كبير من أدبيات الإمام الخميني وإرشاداته يجد أن قضية القدس وفلسطين كانت حاضرة باستمرار في فكره ووجدانه أكثر من غيرها من القضايا، وقلّما تجد في كلمات "المرشد الراحل"، سواء السياسية أو التعبوية، ولا سيما بعد سقوط الشاه، إشارات واضحة وجليّة كتلك التي كانت تخصّ القضية الفلسطينية.
إن دعوة الإمام الخميني رحمة الله عليه التي أطلقها في مرحلة الضعف وقلة النصير أثمرت أخيراً وحدةً وتضامناً وتضافراً للجهود في بقاع شتّى من عالمنا العربي والإسلامي، وتجاوزت ذلك إلى ساحات أخرى بعيدة، لم يكن أشد المتفائلين يتوقع انضمامها إلى هذا المحور الواسع الذي يعادي المستكبرين ويواجههم، وبات يشكل عقبة كأداء في طريق استمرار هيمنتهم وعدوانهم وتوسّع مشاريعهم، وقد كان يرى أن النصر الذي تحقق بإسقاط "الشاه" في إيران، والذي مثّل قطعاً لأحد أذرع الاستكبار العالمي في المنطقة، لا يمكنه أن يكتمل من دون قطع الذراع الأخرى في فلسطين المحتلة، التي يمثلها الاحتلال الصهيوني المجرم الذي لم يتوانَ لحظة واحدة عن استخدام كل الوسائل الشيطانية لتثبيت دعائم احتلاله وفرض وصايته على قبلة المسلمين الأولى بالحديد والنار.
بكل تأكيد استشعر الإمام رضوان الله عليه مسؤوليته الدينية والإنسانية والأخلاقية، واستنهاضه دينه الإسلامي القيم ليقوم بمسؤوليته تجاه المستضعفين في الأرض لمواجهة المستكبرين والجبابرة وطواغيت الأرض، والظالمين الذين أكثروا في الأرض الفساد، واحتلوا واغتصبوا أرضًا ليست لهم، ونهبوا خيراتها، وقتلوا أبناءها، وشردوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق، وظلموهم أيما ظلم، وأجرموا في حقهم كل الإجرام تحت حماية الغرب الكافر والشيطان الأكبر أمريكا ومعها بريطانيا، وبموافقة أنظمة عربية رجعية خانعة وعميلة ارتأت أن بقاءها من بقاء الكيان الغاصب، وزوالها في زوال هذا الكيان اللعين المغضوب عليه من الله رب العالمين.
وقد مثّل يوم القدس العالمي نواةً حقيقية لانطلاق مشروع الجهاد والمقاومة في المنطقة بهدف المواجهة والجهاد في سبيل الله ضد هذا العدو الغاصب والكيان المحتل الزائل بإذن الله سبحانه، فكانت تلك الدعوة سُنّة حسنة دفعت إيران الإسلامية أثمانًا باهضه حيال موقفها العظيم تجاه القضية الفلسطينية، ولو لم يكن للإمام الراحل إلا هذه الخصلة الحميدة لكفته ، حيث إن الإعلان جاء بعد ستة أشهر من عودة الإمام الخميني التاريخية إلى إيران وبعد أربعة أشهر من قيام الجمهورية الإسلامية أي في تموز من العام 1979م مما يؤكد على مدى حضور هذه القضية وعلى حيّز الأولوية الذي شغلته طول حياته .
ولقد منى الله تعالى علينا برؤية وسماع حديث هذا الإمام الفذ منذ 42 سنة في " حسينة جماران" بطهران في يوم ممنون 15 شعبان 1402-13 جوان 1982 وقد كانت فرصة العمر ولن أنسها طوال حياتي إنها كانت منة من المولى عز وجل وأمنيتي الواحدة المتبقية هي أن يمكنني الله تعالى وقبل أن يقبض روحي ملك الموت أن أكون من بين المصلين والساجدين في المسجد الأقصى إن شاء الله و ما ذلك على الله ببعيد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
السيد محمد عبد القادر بوكريطة الحسني-الجزائر العاصمة