* محسن محمدي و محمد هادي فلاح زاده
ان الصحوةالاسلامية التي تخيم اليوم علي معظم البلدان الاسلامية، في اطار تحرك شعبي مدروس، داعية المسلمين في كل مكان للمطالبة بسيادة الاسلام، ما هيإلاّ انعكاساً للنهضة الفكرية التي أوجدتها الثورة الاسلامية فيايران علي صعيد العالمين العربي والاسلامي علي حد سواء. وان الصحوة الاسلامية التي انطلقت بالتزامن مع عصر الاستعمار و الهجوم الغربي الشامل علي العالم الاسلامي، و اقترنت بافكار اشخاص امثال السيد جمال الدين الاسد آبادي(الافغاني)، كانت تقتصر علي حلقات محدودة، ولهذا لم تتمكن من العمل بمثابة ظاهرة مهيمنة مطلقاً. غير أن انتصار الثورة الاسلامية فيايران بقيادة الامام الخميني (قدس سره)، شكّل منعطفاً في تاريخ الصحوة الاسلامية، حيث استطاعت أن تضخ دماء جديدة في جسد الحركات الاسلامية والنهضات الشعبية.
إذ أن الامام الخميني كان يتطلع الي الاهداف العالمية والدولية للثورة الاسلامية غداة انتصارها، وحاول تسخير كل الطاقات والامكانات لتجسيد الحضارة الاسلامية في مواجهة الحضارة الغربية الاستكبارية.وفي هذه الاثناء طرح الامام تعريفاً جديداً (للحج)، وعمل علي احياء الحج الابراهيميفي اجواء خلاقة للفكر الديني. إذ حرص سماحته من خلال نداءاته و خطاباته بمناسبة الحج - التي كانت الصحوة الاسلامية تشكل السمة البارزة لها - علي تغيير الانطباع العام وتصور العالم الاسلامي حول الحج، ومن خلال تقديم تفسير سياسي و اجتماعي للحج، حاول سماحته تسخير الطاقات الفريدة الكامن في هذه الفريضة الالهية لتصب لصالح الصحوة الاسلامية. و لعلّ من أبرز سمات رؤية الامام الخميني لموضوع الحج، شموليتها وعدم اقتصارها علي الابعاد الفقهية والمناسكية والفردية والاخلاقية.
الاطار الفكري والأسس النظرية
للتعرف علي الدوافع التيدعت الامام الخميني للتأكيد علي فهم جديد لأبعاد الدين و دوره السياسي و الاجتماعي، وأن يعتبر سماحته بصفته محي الحج الابراهيمي، يستحسن الوقوف قليلاً عند الموضوعات التي مهدت الي ذلك. وعليه فان هذا المقال يرتكز الي عدد من الأسس النظرية التيتحاول تبرير تلك التوجهات:
اولاً- احياء الامام الخميني للفكر الديني
خلال مسيرته في احياء الفكر الدينيحرص الامام الخميني علي تهذيب وتنقية الاصول التي كانت قد امتزجت بمرور الوقت بالخرافات والاساطير والتصورات الواهية و غير الحقيقية. إذ حرص الامام الخميني من خلال تسليط الضوء علي الابعاد الحقيقية للاسلام، أن يلفت انظار المسلمين الي أن الاسلام وفضلاً عن ابعاده التعبدية، يشكل مصدراً قوياًللاستلهام والتحرك في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعلي الرغم من تأكيد الامام الخميني، في محاولة التصدي لتوجهات التنمية الغربية التيتتمحور حول الاستيراد وتغيير المناخ المحلي، علي الارضية اللازمة لبلورة الانطباع العام ازاء اهمية فكرة التجديد، إلا أن سماحته كان ينظر الي انجازات التكنولوجيا الغربية بمعزل عن الجانب الايديولوجي، و يلفت الانظار الي اهمية التخلي عن الأسس المادية التي تعتمدها، و الاستعانة بها بمثابة وسيلة لبلورة آفاق الحضارة الاسلامية المنشودة.
فمن وجهة نظر الامام الخميني أن السياسة ليست بمعزل عن الدين، بل أن (الاسلام كلّه سياسة)، وأن محاولة فصل الدين عن السياسية من جملة المخططات الاستعمارية. و يؤمن الامام أن ثمة تعامل متبادل بين الدين والسياسة (تأثير وتأثر).
وفي ضوء الرؤيةالخمينية، أن الحج ونظراً لما يتسم به من ابعاد اخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية، يحظي بمكانة خاصة علي المستوي الشخصي والوطني والدولي، ولهذا يمكن اعتبار سماحته بأنه المحي للحج الابراهيمي.
ثانياً- الامام الخميني والنظام الدولي
علي الرغم من أن الامام الخميني بدأ نضاله ضد النظام الشاهنشاهي من منطلق المرجعية الدينيةو فيضوء الفكر السياسي والعرفاني للتشيع، غير أن مسيرته النضالية لم تكن أسيرة النظرة الوطنية او المذهبية الضيقة، بل كان يتطلع الي العالم الاسلامي بأسره، وكان يسعي الي احياء الفكر الاسلامي الاصيل ومحاولة التهميد للحضارة الاسلامية المنشودة. ومن هذا المنطلق حرص الامام منذ الايام الاولي لانطلق نهضته ، علي لفت انظار المسلمين الي فلسطين والقدس الشريف، وكانت لديه آراء و مواقف حول القضايا الدولية، و كانت اهتماماته تتعدي قضايا العالم الاسلامي. وبوحي من هذه التوجهات استطاع الامام أن يلفت الانظار الي الاسلام بمثابة قوة دولية واعدة. وأن أحد أبرز الاسباب التي لعبت دوراً بارزاً في هذا المجال، يكمن فيأن سماحته باعتباره عارفاً مخلصاً صادقاً، كان يخاطب فطرة الانسان مما ساعده في تصدير النداء الالهيالي شعوب العالم.
لقد تحققت الثورة الاسلامية فيضوء عدد من المبادئ السياسية والثقافية و المعرفية. ولهذا أوجد انتصار الثورة نوعاً من الاصطفاف الجديد بين ايران وبقية الدول. لقد كان الامام الخميني في خلاف مستمر مع القوي الاستعمارية، وحاول التصدي للنظام الدولي السائد. وانطلاقاً من أن احد المبادئ الاسلامية علي الصعيد الدوليالذيينص علي تقدم المبادئ الدينيةعلي المبادئ الدولية، أيدّ الامام الخميني محاولة اقتحام وكر التجسس الاميركيفيطهران خلافاًللاعراف الدولية، واصدر فتواه بارتداد سلمان رشدي عن الاسلام. كما دعا سماحته الي إرساء نظم جديد داخل البلاد ومن ثم علي صعيد العالم الاسلامي. ويعتبر هذا النظم بالنسبة للعالم الاسلامي، بمثابة نظماً عالمياً شاملاً يتخذ من الاحكام الالهية منطلقاً للبرامج الاجتماعية و السياسية بما يشكل تحدياً لمشروعية النظام العالمي السائد، وبالتالي تهديد هيمنة الاستكبار الدولي ومصالحه. وقد حرص الامام خلال مواقفه الدولية نظير رسالته الي الزعيم الروسي غورباتشوف،والحكم بارتداد سلمان رشدي، علي الأخذ بنظر الاعتبار تجسيد مفهوم الامة الاسلامية بعيداً عن التوجهات الوطنيةو المذهبية.
دور الحج في الصحوةالاسلامية
1- نشر الوعيوالتنوير
يعتبر الحج اكبر تجمع سنوي للمسلمين من مختلف انحاء العالم. و أن تشكيل هذا الحشد المبارك يضع تحت تصرف العالم الاسلامي قوة كبري يمكن استغلالها للتوعية والتنوير بنحو أفضل حيال قضايا العالم الاسلامي و التحديات التي تواجهه. ومما يذكر في هذا الصدد أن نبي الاسلام (ص) والائمة الاطهار(ع)، حاولوا علي الدوام منذ اليوم الاول لتشريع الحج في الاسلام، الاستفادة من الحج بمثابة منطلقاً لنشر معارف الدين واطلاع المسلمين علي ما يجري من حولهم.
وأن أحد أبرز الادوار التي يضطلع بها الحج في مجال الصحوة الاسلامية، التعريف بالاسلام الحقيقي، الاسلام الذي حاول المستعمرون حصره في جانبه العبادي الفردي ، وتجريده من بعده السياسي والاجتماعي. وبعد قرون، وفي ظل تعزيز الجوانب السياسية والاجتماعية للاسلام، تحولت الصحوة الاسلامية الي تحرك فاعل و شامل. وعليه فأن أبرز عوامل الصحوة الاسلامية يكمن في عودة المسلمين الي الاسلام المحمدي الاصيل، الاسلام الذي يتمتع المسلمون في ظلاله بنظام حكم قوي ومستقل و متساميسواء من الناحية العلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية.. الاسلام الذيتقترن فيه السياسة بالدين، لازماً وملزوماً.. الاسلام الذيتشكل فيه المعنويات والاخلاق اساس المجتمع و السمة الأبرز لأفراده. و ان النتيجة الطبيعة لهذا الاسلام، صلابة المجتمع وحيويته علي الدوام بحيث لا تجد فيه مكان للتقاعس والاهمال و اللامبالاة و الغفلة. وبناء علي ذلك فان تعرف المسلمين علي الاسلام الحقيقي يؤدي الي الصحوةالاسلامية بشكل تلقائي ، وأن بوسع الحج توفير مثل هذه الفرصة علي أحسن وجه وبأفضل نحو.
وإذ يري الامام (قدس سره) أن جهل المسلمين بأبعاد الدين الاسلامي، يشكل التحدي الأكبر للمجتمع الاسلامي، فأنه يؤكد في نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام علي هذه الملاحظة موضحاً:
العيد السعيد و المبارك هو فيالحقيقة اليوم الذي يتحرر فيه المسلمون، في ظل وعيهم و يقظتهم و تعهد و التزام علماءالاسلام، من تسلط وهيمنة الظلمة و الناهبين الدوليين، وأن هذا الهدف الهام لايتحقق إلاّ اذا تمكنا من توعية الشعوب الرازحة تحت الظلم و اطلاعها علي احكام وتعاليم الاسلام .. و أية فرصة اسمي و افضل من مؤتمر الحج العظيم الذيهيأه الله تعالي للمسلمين.
وفي هذا السياق يعتبر الحج من اهم الاحكام الاسلامية، الذي تم حصره في ابعاده المناسكية علي الرغم من اهمية و فاعلية ابعاده السياسيةوالاجتماعية. و عليه ينبغي احياء الحج باعتباره احد اكثر العبادات الاسلامية التي تختزن الجانب السياسي.
وفي النداء الذي اصدره الامام (قدس سره) بمناسبة المجزرة الدامية التي ارتكبها النظام السعوديبحق الحجاج في مكة المكرمة، يستنكر سماحته بشدة الافكار التي تدنت بالحج الي مستو مناسك جماعية مجردة و سفرة سياحية، في الوقت الذييلفت فيه الانظار الي اهمية الابعاد السياسية والاجتماعية للحج فيالنضال ضد اعداء الاسلام، وفي تعزيز وترسيخ تضامن المسلمين وتوحيد صفوفهم.
الامام الخميني يري ثمة تفسيراً سياسياً لمناسك الحج ، ويقرنها بمفاهيم و دلالات نظير:مقارعة شياطين و اصنام و طواغيت العصر، فضلاً عن تعاضد المسلمين و تضامنهم و تلاحمهم.
وفي ضوء ذلك يري الامام (قدس سره) أن احد مسؤوليات المسلمين الكبري تكمن في إدراك حقيقة الحج، ولماذا ينبغي علي الدوام تكريس جانباً من امكاناتنا المادية و المعنوية لأداء هذه الفريضة.
واضافة الي ذلك يؤكد الامام الخميني علي ضرورة تداول ومناقشة قضايا العالم الاسلامي خلال موسم الحج، من أجل تدعيم هوية المسلمين الدولية (الامة الواحدة)،ونفوذ الصحوة الاسلامية الي مرافق حياتنا العملية فضلاً عن ابعادها السياسية.
ومن وجهة نظر الامام الخميني (قدس سره)، أن الجانب الهام الذييتسم به هذا التجمع الحاشد هو، تبادل
المعلومات حول الاوضاع التي شهدتها بلاد المسلمين خلال عام كامل، والتفكير معاً للبحث عن حلول لمشكلات المسلمين والحد من معاناتهم، وأن الاجتماع الاسلامي المليوني الحاشد في الحجار إنما هو من أجل ذلك، اضافة الي مناسكه التعبدية.
2- البراءة من المشركين، الخطوة الاولي في مسيرة النضال
ان معرفة العدو والاحاطة بمخططاته، تشكل الخطوة الاولي في مسيرة مواجهته والتصدي له. ولهذا يعتبر ذلك من أبرز ابعاد الصحوة الاسلامية. ومن هنا نجد ثمة تأكيد في رؤيةالامام الخميني للصحوةالاسلامية علي مفهوم (الضدية) و(الآخر)، الذييلفت الانظار الي دور الاستعمار والاستكبار في عدائهما للعالم الاسلامي.
ويمكن اعتبار الصحوةالاسلامية بمثابة ردة فعل إزاء علاقات الغرب الاستعمارية مع العالم الاسلامي، التيصادرت سيادة واستقلال وعزة وكرامة الدول الاسلامية. وبعبارة أخري، أن الاستعمار استبدل طبيعة العلاقة بين المسلمين و الغرب، من علاقة بين لاعبين متساويين، الي علاقة بين سيد و تابع.
ويؤمن الامام (قدس سره) بأن اعداء الاسلام يشكلون عاملاًهاماً في تخلف المسلمين، ذلك أنهم ومن خلال بث الخلافات وإثارة الفرقة بين المسلمين،وعمالة الحكام و الانظمة، يعملون علي نهب موارد وثروات البلدان الاسلامية، و لهذا يطالب سماحته حجاج بيت الله بفضح اساليب و ممارسات اعداء الاسلام خلال هذا المؤتمر الاسلاميالحاشد.
و يري الامام (قدس سره) أن البراءة من المشركين تضطلع بمكانة خاصة في تحقق الحج الحقيقي والصحوة الاسلامية، ويقول سماحته: لاشك أن الحج الخالي من الروح والتحرك والثورة، الحج الخالي من البراءة،الحج الفاقد للوحدة، والحج الذي لا يقود للقضاء علي الكفر والشرك، لا يعتبر حجاً.
ورغم أن البراءة من المشركين تعتبر مبدأ دائماً وخالداً، شرّعه الله تعالي من أجل ايضاح نهج الاسلام والمسلمين السياسي حيال معارضي التوحيد ومنتهكي الحقوق الانسانية والمشروعة للمسلمين،. غير أن البراءةمن المسلمين من وجهة نظر الامام الخميني (قدس سره) في كل عصر، تتطلب مظاهر واساليب و برامج خاصةبها. وأن الامام الخميني لم يحصر البعد الاجتماعي للحج والبراءة من المشركين بأسلوب محدد وخاص، بل أن هاجسه الاكبر وتأكيده الرئيسي يتمحور حول المضمون العميق للحج، و الاستفادة المثلي منه من خلال الارتكاز الي التوحيد الاصيل و اجتناب جميع مظاهر الشرك والاعتماد علي غير الله. ان نفس هذا الامر استطاع أن يشكل مصدراً لبركات كثيرة في المجتمعات الاسلامية، وأن تتظافر الجهود وتتكاتف للحفاظ علي التراث والحضارة الاسلامية.
و لتوضيح طبيعة العلاقة بين الصحوة الاسلامية والبراءةمن المشركين، لابد من القول أن مراسيم اعلان البراءةمن المشركين في الحج، تعد بمثابة اعلاناً و انطلاقة للنضال المستلهم من الصحوة الاسلامية، بحيث لا يمكن توقع وجود مثل هذه الاجواء وهذا التحرك في المجتمعات الاسلامية بغياب الصحوة الاسلامية. ان هذه الصحوة تنطلق من ارض الوحي – التيانطلق منها النضال ضد الطاغوت وتحطيم الصنام – ويقوم المسلمون المشاركون في مؤتمر الحج العظيم بتعميمها في مختلف انحاء المجتمعات الاسلامية.
ان رؤية الامام الخميني للبراءةمن المشركين، هيروح الصحوة الاسلامية التي تعرب عن اعتراضها ضد خداع و مكر الاستعمار واعداء الاسلام ومحاولتهم إغفال المجتمعات الاسلامية. وفي هذا الصدد يقول سماحته في احد نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام: ان صرخة البراءة من المشركين و الكافرين اليوم، هي صرخة تذمر من ظلم الظالمين، وصرخة أمة ضاقت ذرعاً باعتداءات الشرق و الغرب وفي مقدمتهم اميركا و أذنابها، ونهب وطنها ومواردها وثرواتها... ان صرخة براءتنا صرخة أمة يكمن لها كل الكفر و الاستكبار يترقبون موتها، وباتت كل السهام والحراب تستهدف القرآن الكريم والعترة الطاهرة.
نظريةالعدو المشترك والصحوة الاسلامية
ان نظريةالعدو المشترك، تشير بوضوح الي مدي العلاقة بين البراءة من المشركين والصحوة الاسلامية. أن الصحوة الاسلامية بأمس الحاجة الي تضامن و وحدة المسلمين كي يتسني لها الاستمرار وتحقيق اهدافها علي المستوي البعيد. ولا بد لها في هذا المسير، التخلي عن التوجهات القومية والعنصرية، وأن تتخذ من الاسلام محوراً للتحرك والنهضة. ويعتبر وجود العدو المشترك احد الدوافع لتوحيد الصفوف وتعزيز انسجام الجبهة الداخلية،ذلك أن جانباً من الهوية يكتسب معناه في ظل التناقض والضدية. أن جانباً من وجودنا رهن تميزنا عن الآخرين.
وأن الكثير من الاصطفافات الدولية و الحضارية في العصر الحاضر يمكن التعرف عليه عن هذا الطريق. ففيمرحلة الحرب الباردة ان الكثير من السياسات و المشاريع الاقتصادية و الدولية الاميركية كانت بدافع المواجهة مع الاتحاد السوفيتي. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي و غياب العدو المشترك، اصيبت اميركا بالتخبط و فقدان الهدفية فيسياستها الخارجية، وعانت الكثير من الضغوط من أجل تبرير سلوكها و نفقاتها العسكرية. غير أن تحركات اشخاص تنظيمات امثال صدام والقاعدة، اوجدت لها ذريعة جيدةفي متابعة سياستها بالتخويف من الاسلام و تشويه صورته لدي الرأي العام، وتحت شعار مكافحة الارهاب حاولت تصوير الاسلام بمثابة عدوها الرئيسي في الساحة الدولية. وفي هذا السياق ظهرت نظرية (نهاية التاريخ) لفوكوياما، و(صراع الحضارات) لـ هانتينغون. وان البراءة من المشركين في الحج تحمل رسالة الي المسلمين مفادها أنه لابد من الاتحاد حول محور التوحيد والكعبة رغم كل الخلافات، وأن ينظر الجميع الي الكفر والكافرين باعتبارهم عدوهم المشترك.
3- توثيق أواصر التضامن
الامام الخميني يعتبر الحج أحد الوسائل والاماكن لتحقق التضامن في العالم الاسلامي، وينظر الي التعاضد والتضامن باعتباره احد العدوافع الهامة التيتقف وراء تشريع الحج، ويدعو سماحته الحجاج للاهتمام بهذا الجانب ويحذرهم من إثارة الخلافات والتفرقة. وفي هذا الصدد يري ثمة مسؤولية هامة تقع علي عاتق علماء الدين والمفكرين في العالم الاسلامي.
الصحوة الاسلامية عبارة عن تحرك سياسيواجتماعي كبير و واسع لن يحقق النتائج العملية المرجوة من دون دعم ومساندة شاملة من كافة الشعوب الاسلامية. ولهذا يعتبر الحج فرصة فريدة بالنسبة للعالم الاسلامي لتعزيز تضامن المسلمين وبلورة قوتهم واقتدارهم. وأن بوسع الحج تعزيز تضامن المسلمين علي طريق الصحوة الاسلامية من جهتين:
الاولي – توثيق الهوية الحضارية
تعتبر الهوية الحضارة تجسيداً لمعرفة الانسان و وعيه العميق للحضارة التي ينتسب اليها. ولا معني للصحوة الاسلامية من دون الالتفات الي الهوية الحضارية.
أن أية خطوة يقدم عليها المسلمون لنشر الثقافة الاسلامية والتصدي للثقافة الغربية والحكام المأجورين، إنما تستهدف احياء الحضارة الاسلامية انطلاقاً من الهوية المدنية التي ينتسبون اليها، وإلاّفلا يوجد اي دافع لتغيير الوضع السائد. ولهذا فان ثمة علاقة متبادلة بين الهوية الحضارية والصحوة الاسلامية. فالصحوة الاسلامية تنطلق أولاً بوحي من الهوية الحضارية. ومن ثم، وإثر تحقق النتائج المرجوة،تعمل علي بلورة وتدعيم الهويةالحضارية. وبهذا الصدد يقول الامام الخميني (قدس سره):
من جملة الامور التي ينبغي للحجاج المحترمين التنبه اليها، هو أن التواجد في هذه المشاهد المشرفة والاماكن المقدسة، ومع الأخذ بالاعتبار الظروف الصعبة والشاقة التيأحاطت ببعثة الرسول (ص)، يعرّفنا بمسؤولياتنا اكثر فأكثر تجاه صيانة مكاسب ومنجزات هذه النهضة وهذه الرسالة الالهية.
الثانية – انتفاء الانتماء العرقيفيالحج
التشتت الجغرافي والثقافي للعالم الاسلامي، يمكن أن يشكل عقبة في طريق العثور علي الهوية المشتركة وتضامن العالم الاسلامي. وفضلاً عن ذلك فان العلاقة بين مبادئ الثقافة الاسلامية والوطنية بالنسبة للدول الاسلامية، شكّلت علي الدوام أحد أبحاث علم الاجتماع البارزة بشأن العالم الاسلامي، التي تضطلع بدور مؤثر للغاية بالنسبة للمناخ السياسيو الاجتماعي الخاص بالدول الاسلامية. و نلاحظ ذلك ايضاً لدي دراسة مسيرة الصحوة الاسلامية في العالم الاسلامي، ونري أنه عندما يصبح التوجه القوميمدعاة لأيديولوجية النهضات، تبرز ثمة عقبة رئيسية في مسار الصحوةالاسلامية. ولكن حينما يكون الاسلام اساساً للتحرك السياسيوالاجتماعي، سوف تمضيالصحوة الاسلامية في مسارها التكاملي وتشكل تحدياً حقيقياً للقوي الاستعمارية.
والحج مناسبة في ذات الوقت الذي تجسد فيه الحضور الفاعل للشعوب والثقافات الاسلامية،فأنها تعبر بصدق عن غاية التآخي و الوحدة. وفيالحج يؤديجميع زائري بيت الله مناسك واحدةفيمكان وزمان واحد، حتي الثياب التي يرتدونها أثناء اداء هذه المناسك تكون واحدة، حتي لا يبقي ايأثر للتباين والاختلاف. وأن الفارق الوحيد الذي يميزهم يكمن فيالخلقة، الذي يراه الله تعالي وسيلة للتعارف فيما بينهم. وبهذا النحو يتعلم المسلمون فيالحج كيفية ذوبان الانتماء القومي في ظل الايمان بالله والتقوي، وان يتخذوا من الاسلام محوراً للتقارب والوحدة.
4- الابعاد العرفانية للحج والصحوة الاسلامية
الحج ذو ابعاد عرفانية عميقة للغاية، وان المؤمنين يؤدون الي جوار بيت الله الحرام اعمالاً عرفانية كثيرة. و الامام الخميني كان يهتم بهذا الجانب كثيراً. وأن احد ابرز سمات الابعاد العرفانية للحج، أنها تنسجم وتتناغم مع الأبعاد السياسية. وفيحراك الصحوةالاسلامية ثمة عامل قويجداً وفاعل باستطاعته أن يقود النهضة لتحقيق اهدافها، يكمن فيالايمان والتدين الذي يرتقي بالمستوي السياسي والاجتماعي للمجتمع. وهكذا يخلق العرفان حماسة خالدة ويجنب النهضة المخاطر والانحراف. و مما يذكر في هذا الصدد أن الامام الخميني يدعو المسلمين – في نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام- الي الاهتمام بهذه الابعاد اثناء ادائهم لمناسك الحج، واتخاذ ابراهيم الخليل (عليه السلام) اسوة وقدوة فيتصديهم للشرك والطاغوت والاستعمار.
ومن هنا ندرك أن عرفان الامام الخميني(قدس سره) ذو بعد سياسي. إذ أننا نري سماحته يطرح فهماً سياسياً لأبرز المفاهيم العرفانية نظير التوحيد، يتمحور حول رفض الطاغوت و محاولة التصدي له. وأن بوسعنا التعرف علي مدي التناغم والانسجام بين البعد السياسي والعرفانيفي شخصية الامام الخميني (قدس سره)، وذلك من خلال رؤية سماحته الي الحج:
(ان المراتب المعنوية للحج، التيتعتبر رصيداً للحياة الخالدة وتقرّب الانسان الي أفق التوحيد والتنزيه، لن تتحقق ما لم يتم اداء المناسك العبادية للحج بشكل سليم وبما يليق حتي في أدق التفاصيل... وأن البعد السياسي والاجتماعي للحج لن يتحقق ما لم يتجسد البعد المعنوي والالهي عملياً...).
وأن هذا الأمر يكتسب ابعاداً اعمق بالالتفات الي الابعاد السياسية لمناسك الحج. و الامام الخميني (قدس سره) يفهم التلبيةوالطواف والرمي و الهدي، في منطق توحيدي يتحور حول البيعة مع الله ورفض الشرك والطاغوت، ويعتبر ابراهيم الخليل (عليه السلام) مؤسس الحج، المحطم للاصنام في التاريخ، ويؤمن (قدس سره) بأن يضع الزائر لبيت الله قدمه في موطئ قدم النبيابراهيم (عليه السلام)، وبناءً علي ذلك اداء الحج الابراهيمييكون علي هذا الأساس. وبعبارة أخري، أن معنوية الحج تنبع من مناسك الحج، المناسك التي في ذات الوقت التيتجسد الجانب العبادي، تتسم ببعدها السياسي. ان الايمان والمعنوية اللذين يتجليان بأفضل صورة خلال مناسك الحج، يؤثران في الصحوةالاسلامية من جانبين:
الاول- أن انطلاق الصحوة الاسلامية وليد اهتمام المسلمين بالدين والايمان . و لا شك أن الصحوة الاسلامية لامعني لها بالنسبة لعديمي الايمان وغير العابئين بالاسلام. ولهذا ينبغي تقوية الالتزام الديني لدي افراد المجتمع قبل كل شيء، كييتسني للمؤمنين النهوض وانطلاق الصحوة الاسلامية.
وفينداءه الي حجاج بيت الله الحرام، يوضح الامام الخميني (قدس سره) دور الايمان في النضال وفيحراك الصحوةالاسلامية قائلاً: ... واذا ما تم اهمال ونسيان الجوانب المعنوية، فلا تتصوروا أن بامكانكم التحرر من براثن شيطان النفس. فطالما بقيتم فيأسر الذات واهوائكم النفسانية، لن تتمكنوا من الجهاد في سبيل الله والدفاع عن حريم الله...
الثاني – لو افترضنا أن تحرك الصحوة الاسلامية انطلق بايحاء من التوجهات السياسية، غير أن مواصلة النهضة واستمرارها لا يتسني بمعزل عن الايمان واهمال الجوانب الاخلاقية والمعنوية. وحول دور الايمان في تحقيق النصر في هذا النضال وهذه المواجهة، يقول الامام الخميني في ندائه الي حجاج بيت الله الحرام موضحاً:
يجب أن يكون التاريخ عبرّة لنا. و نحن عندما نتصفح التاريخ نري ثمة احداثاً واجهت الاسلام والمسلمين، وأن النصر كان حليف المسلمين كلما كانت قوة الايمان حاضرة وكان الناس والمسلمون يتحركون بقوة الايمان. ومتي ما كان الهدف تحقيق آمال دنيوية كان النصر يهرب منهم.
5- انتشار الصحوةفي العالم الاسلامي
ان احدي السمات البارزة للحج هيأن مندوبين من انحاء العالم الاسلامي يجتمعون كل عام الي جوار بيت الله الحرام. وبعد عودة هؤلاء الاشخاص الي بلدانهم فأنهم يحملون معهم رسالة الحج، وان بامكانهم عن هذا الطريق نشر المكاسب السياسية والثقافية وحتي المعنوية والخلاقية للحج في مختلف انحاءالعالم الاسلامي. وأن هذا يلفت الي بعد آخر من ابعاد الحج في تحقيق الصحوةالاسلامية. وان الامام الخميني وضمن إيمانه بأن الحج يختزن طاقات ضخمة بالنسبة للصحوةالاسلامية، يري بأنه يمتلك امكانات كبيرة في مجال انتقال الصحوةالاسلامية وانتشارها في الدول الاسلامية وايجاد حراك فاعل ومؤثر في العالم الاسلامي.
ومما يذكر فيهذا الصدد، أن الامام يعتبر فياحد نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام، ضمن توضيح الابعاد السياسية للحج، أن تصدير الصحوةالاسلامية من جملة المعطيات السياسية للحج، حيث يقول: يعتبر البعد السياسي لمناسك الحج العظيمة من اكثر الابعاد المنسية والمهجورة والمغفول عنها... إذ أن بوسع الاشخاص، كل فيمدينته وموطنه، أن يعمل علي توعية المسلمين والمظلومين فيالعالم بالابعاد السياسية للحج، وحث المظلومين علي النهوض ورفض الضغوط المتزايدة للظالمين الذين يزعمون الدفاع عن الاسلام.
الامام الخميني (قدس سره) يعتبر الثورة الاسلامية فيايران، نموذجاً بارزاً للصحوة الاسلامية، ومع الأخذ بالاعتبار رؤيته بالنسبة لتصدير الثورة الي العالم الاسلامي والدول الأخري، يري في الحج فرصة قيمة لتصدير الثورة الاسلامية، لأن تصدير الثورة من وجهة نظر سماحته إنما هو تصدير للصحوة الاسلامية. وفي هذا الصدد يقول سماحته في نداء الي حجاج بيت الله الحرام:
(اننا نريد أن تنتقل هذه الصحوة التيحدثت في ايران، لتعم جميع الدول... أن مفهوم تصدير ثورتنا هو أن تصحو وتفيق جميع الشعوب، وجميع الحكومات، وأن ينقذوا أنفسهم من هذه المعاناة، من الرزوح في الاسر وتحت الهيمنة، والحد من نهب مواردهم وثرواتهم والتخلص من الفقر والحرمان الذي يخيم علي حياتهم).
الامام الخميني وضمن إشارته الي الاعلام المغرض للاعداء ومحاولة تشويه مفهوم تصدير الثورة، يدعو في نداءاته الحجاج الايرانيين الي نقل نداء الثورة الي حجاج الدول الأخري، وأن يطلبوا منهم نقل هذا النداءالي شعوبهم، من أجل إتساع امواج الصحوةالاسلامية وانتشارها اكثر فأكثر.
وفي نداءآخر، يري الامام أن أحد أبرز وأهم المسؤوليات الملقاة علي عاتق الحجاج الايرانيين، تتمثل فيتصدير الثورة وإزالة ومحو الصورة المشوهة التييحملها بعض حجاج الدول الأخري عن الثورة، ويعتبر الذي يتخلف عن اداء ذلك يرتكب ذنباً كبيراً.
وبناء علي الرؤية الخمينية، أن تصدير الثورة من خلال موسم الحج، لايقع علي عاتق الحجاج فقط، بل أن علماء الاسلام والمفكرين يضطلعون بمسؤولية هامة في هذا الصدد، كييتسني توضيح مبادئ واهداف الثورة بنحو أفضل، واحباط مؤامرات اعداء الاسلام، والمساهمة في تصدير الصحوة الاسلامية عن هذا الطريق.
النتيجة
انطلاقاً من رؤيته الشمولية للدين، لم يعمل الامام الخميني فقط علي اخراج العرفان من العزلة والانزواء علي الصعيد الفردي، بل جعل منه منطلقاً للنضال والثورة. وان هذا النموذج الواعي والمتقدم الذي يهيمن علي الفكر الاصلاحي والاحياء الديني للامام الخميني، يتجلي بوضوح خلال موسم الحج. وقد تصدي سماحته بقوة للفكر الذي يحاول حصر الحج في ابعاده الفردية واقتصاره علي الجانب الاخلاقي، وحرص لأن يجعل من الحج منطلقاً للنضال ضد الطاغوت، و مدعاة لصحوة المسلمين ويقظتهم. ومن خلال نداءاته الي المسلمين فيأيام الحج، وضمن تأكيده علي أمور نظير البراءة من المشركين، حاول الامام الخمينياقناع المسلمين بالتخلي عن حالة الانبهار أمام الغرب، والعودة الي مرحلة الرقي والتسامي الحضاري.