العزة في وصية الإمام الخميني (القسم الاول)

ID: 83827 | Date: 2025/08/17


 د. محمد علي آذرشب أستاذ في جامعة طهران


هذه مقدمات يحتاج كل منها إلى دراسة مستقلة، اكتفي بالإشارة إليها فقط لأدخل في صلب الموضوع.


العزة وأهل البيت (ع)


في مقدمة الوصية نرى تأكيدا على أهل البيت (ع) وعلى الالتزام بنهجهم وعلى ما نزل بهم من ظلم في التاريخ، ولهذا التأكيد مدلوله الخاص. انه يعني الانتماء إلى مدرسة العزة في التاريخ. أهل بيت رسول الله كانوا دون شك على مر التاريخ في طليعة مقارعة الظلم والظالمين، والدفاع عن عزة المسلمين. وكانت الدماء التي قدموها على هذا الطريق مبعث حركة تاريخية مستمرة صانت الإسلام من الانحراف والمسلمين من الإذلال. الإمام الراحل (قده) بتأكيده على هذه الدراسة إنما يريد أن يوثق الارتباط بمصدر هام للعزة، وهو المصدر التاريخي، ويريد في الوقت نفسه أن يدين كل من أذل المسلمين وسامهم سوء العذاب باسم الدين والإسلام. الارتباط التاريخي بالثورات والثوار وبحركة الدفاع عن العزة والكرامة يشكل، دون شك، مصدرا هاما من مصادر إلهام الأجيال وتحديدا الوجهة الحركية في مسيرتها. بعد أن يؤكد الإمام الراحل على حديث الثقلين باعتباره حديثا متواترا بين المسلمين، وباعتباره الضمان التشريعي لصيانة المسيرة من الانحراف، يذكر بعد ذلك ما حل بالمسلمين نتيجة اقصاء أهل البيت، ويرفع صوته بالفخر بسبب انتمائه هو والشعب الإيراني إلى مدرسة العزة والكرامة والتحرر والانعتاق، كأنه يريد بذلك أن يلقن مخاطبه الاعتزاز بهذا الانتماء التاريخي والرسالي، يقول: نحن والشعب العزيز الملتزم التزاما لا حد له بالقرآن والإسلام، نفخر بأننا أتباع مذهب يستهدف أن يخلص حقائق القرآن الداعية بأجمعها إلى الوحدة بين المسلمين بل البشرية، من المقابر ليقدمه باعتباره أعظم وصفة للبشرية من جميع ما يكبل يدها ورجلها وقلبها وعقلها من قيود، ويدفعها نحو الفناء والابادة والرقية والخضوع للطواغيت. نحن نفخر بأننا أتباع مذهب مؤسسه رسول الله بأمر من الله تعالى، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب هذا العبد المتحرر من جميع القيود والمأمور بتحرير البشرية من الاستعباد وجميع الأغلال. نحن نفخر بأن كتاب نهج البلاغة الذي هو بعد القرآن أعظم نهج للحياة المادية والمعنوية وأسمى كتاب تحرري للبشرية، وتعاليمه المعنوية والادارية، أسمى طريق للنجاة، هو من إمامنا المعصوم" (الوصية، ص10).


ويواصل الإمام عرض مفاخر هذه المدرسة في التربية والتعليم مركزا على ما قدمته من تضحيات في سبيل العدل ومقارعة الظالمين، ويربط هذه التضحيات بشكل رائع بما قدمه الشعب الإيراني في سبيل دينه، مؤكدا بذلك أن حركة هذا الشعب هي استمرار لمسيرة الجهاد الطويل الذي خاضته مدرسة أهل البيت، يقول: نحن نفخر بأن يكون الأئمة المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم قد عانوا لسجن والتشريد  على طريق تعالي الدين الإسلامي وعلى طريق تطبيق القرآن الكريم، وإقامة حكومة العدل الإلهي باعتبارها واحدا من أبعاد (هذا التطبيق)، واستشهدوا في النهاية على طريق الاطاحة بالحكومات الجائرة والطاغوتية في زمانهم، ونحن نفخر اليوم بأننا نريد تطبيق أهداف القرآن والسنة، وان فئات الشعب المختلفة تبذل بولع شديد على هذا الطريق المصيري الكبير، طريق الله، النفس والمال والأعزة" (الوصية، ص11).


ويعود الإمام في نهاية مقدمة وصيته ليطلب من كل المسلمين أن يقتدوا بهذه المدرسة بما فيها من فكر عميق وروح تضحية وفداء، يقول:  "أطلب من الشعوب المسلمة بكل جد وبكل تواضع أن يقتدوا بالأئمة الأطهار وبما قدمه هداة البشرية العظام هؤلاء من فكر سياسي واجتماعي واقتصادي وعسكري، وبصورة لائقة وعن رغبة عميقة وببذل النفس وتقديم الأعزة" (الوصية، ص13).


 ويعود مرة أخرى للتأكيد على احياء الذكريات التاريخية التي توثق صلة الأمة بالجهاد والحركة على طريق العزة والكرامة، ومن ذلك احياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي (ع)، وملحمته الخالدة، مذكرا: "إن تعاليم أئمة أهل البيت عليهم السلام لاحياء هذه الملحمة التاريخية الإسلامية، إنما هي صرخة بطولية شعبية بوجه الحكام الظلمة على مر التاريخ والى الأبد". (الوصية، ص13 ــ 14).


العزة والمرأة


لا يمكن أن تتحقق العزة في أمة تكون المرأة فيها حقيرة ذليلة مهانة، ومن أكبر عوامل الاذلال في مجتمعاتنا الإسلامية على مر التاريخ كان الوضع المزري الذي عاشته المرأة المسلمة. فالمرأة الأم والأخت والزوجة هي التي تبعث في نفوس الجيل روح العزة والكرامة، وهي نفسها ــ إن كانت ذليلة مهانة ــ  تغرس روح الذل والهوان في نفوس الأجيال. والظاهرة الغريبة في الثورة الإسلامية حركة المرأة على طريق العزة، وعلى طريق دفع المسيرة نحو التضحية والفداء بحيث تقدمت كما يقول الإمام أحيانا على الرجل في هذا المضمار. والمهم في الأمر أن الفئة المتحركة من النساء على طريق الثورة لم تكن تلك الفئة التي ادعت العصرنة والتحرر، بل هي تلك الفئة التي فرض عليها الحرمان من المشاركة الاجتماعية نتيجة دساس الأعداء وجهل الأصدقاء كما يقول الإمام. يؤكد الإمام في مقدمة وصيته على هذا الدور الذي نهضت به المرأة، ويشير بوضوح إلى أن انزواء المرأة المسلمة كان نتيجة عقلية خرافية بثها الأعداء وأشاعها الجهلة وبعض رجال الدين المتحجرين، يقول الإمام: "نحن نفخر بأن النساء بمختلف الأعمار موجودات زرافات ووحدانا في الساحات الثقافية والاقتصادية والعسكرية، ويبذلن الجهد جنبا إلى جنب مع الرجال، أو متقدمات عليهم، على طريق إعلاء الإسلام وأهداف القرآن الكريم. ومن منهن قادرات على الحرب يشاركن في تلقي التدريب العسكري الذي هو من الواجبات الهامة للدفاع عن الإسلام والبلد الإسلامي، وأنهن حررن أنفسهن بشجاعة والتزام من الحرمان الذي فرض عليهن بل على الإسلام والمسلمين دسائس الأعداء وجهل الأصدقاء بأحكام الإسلام والقرآن، وتخلصن من قيود الخرافات التي خلقها الأعداء لمصالحهم على يد الجهلة وبعض رجال الدين غير الواعين لمصالح المسلمين. ومن منهن غير قادرة على الحرب فهي منهمكة في الخدمة خلف الجبهة بشكل رائع يهز قلوب الجماهير شوقا واعجابا ويثير الغضب في قلوب الأعداء والجهلة الأسوأ من الأعداء. ونحن رأينا مرارا أن نساء عظيمات يرفعن أصواتهن كزينب عليها سلام الله (ويقلن) إنهن قدمن أبناءهن وكل عزيز لديهن على طريق الله تعالى والإسلام العزيز، ويفخرن بذلك، ويعلمن أن ما كسبنه أسمى من جنات النعيم، فما بالك بمتاع دنيوي حقير (الوصية، ص11).


العزة والشريعة


الاستقلال التشريعي لكل أمة يصون شخصية هذه الأمة ويبعدها عن الانحلال والذوبان. وكانت الشريعة الإسلامية سمة مميزة للأمة على مر التاريخ، توحد أقطارها، وتبلور شخصيتها، وتصون عزتها، وتخلق الانسجام بين عقيدتها وممارساتها العملية. ومع ظهور أول بوادر ضعف شخصية الأمة ظهرت أيضا بوادر التشكيك في الشريعة وجدواها والدعوة إلى الاقتباس من التشريعات المستوردة، وهكذا أقصيت الشريعة الإسلامية من مجالات الحياة المختلفة بعد أن انهارت شخصية الأمة في عصر الاستعمار. الشريعة الإسلامية في نظر الإمام ليست فقط المنهج الأفضل للحياة، بل هي أيضا الرمز لصيانة عزة المسلمين وكرامتهم وشخصيتهم، يشير الإمام إلى أن أبعاد الإسلام عن ساحة الحياة يستهدف خلق مجتمع يائس مهزوم، وعملية الأبعاد هذه تتخذ سبيلين: الأول: باسم العولمة أو على حد تعبير الإمام بالادعاء انه "لا يمكن في العصر الراهن عزل بلد من البلدان عن الحضارة العالمية ومظاهرها" (الوصية، ص18). والثاني: سبيل التقدس، وهو القول "بأن الإسلام والأديان الإلهية الأخرى تهتم بالمعنويات، وتهذيب النفوس، والتحذير من المناصب الدنيوية، والدعوة إلى ترك الدنيا، والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرب الإنسان من الله تعالى وتبعده عن الدنيا، وان الحكومة والسياسة والتصدي لادارة الأمور تتعارض مع ذلك المقصد والهدف المعنوي الكبير ‍‍‍"(الوصية، ص18).


ويرد على المجموعة الأولى بأن الشريعة الإلهية تستهدف القضاء على الظلم وانتهاك حرمة الإنسان، وهي لذلك خالدة ما دامت البشرية بحاجة إلى أن تصون نفسها من ظلم الظالمين وطغيان المستكبرين: "لو أن اجراء العدالة الاجتماعية ومنع الظلم والنهب والقتل ضروري في صدر الخليقة، فهل أصبح ذلك أسلوبا باليا في قرن الذرة؟" (الوصية، ص19)، وبهذه العبارة يبين الإمام مقاصد الشريعة :العدالة، ومنع الاعتداء على الإنسان في شخصيته وماله ونفسه، وهي مقاصد ترتبط بعزة الإنسان وكرامته. ويرد على أصحاب السبيل الثاني بنفس أسلوب بيان المقاصد فيقول: "حكومة الحق المقامة لمصلحة المستضعفين ولمنع الظلم والجور ولاحلال العدالة الاجتماعية هي… من أعظم الواجبات وإقامتها من أسمى العبادات" (الوصية، ص 20).


وبهذين الردين على المشككين في إمكان تطبيق الشريعة واقامة الدولة، يربط الإمام بين قيام الدولة الإسلامية وتحقيق عزة الإنسان المسلم وكرامته. وهذا الربط نشاهده أيضا في النصوص المأثورة التي تقول: "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة (تعز) بها الإسلام وأهله .. وترزقنا فيها (كرامة) الدنيا والآخرة". وفي موضع آخر من الوصية يرى الإمام أن الحكومة الإسلامية بتطبيقها الشريعة الإسلامية تستطيع أن تحقق قوة الأمة وعزتها وتقف بوجه من يريد أن يذلها ويصادر مقدراتها، وترفعها إلى مدارج التكامل المادي والمعنوي. لذلك، فإن اقامة الحكومة الإسلامية أسمى هدف سعى إليه الأنبياء والأولياء، وصيانتها يشكل قمة الواجبات الإسلامية، يقول الإمام: "الإسلام والحكومة الإسلامية ظاهرة إلهية يضمن تطبيقها سعادة الأفراد في الدنيا والآخرة على أعلى المستويات. و(الإسلام) له قدرة الوقوف بوجه كل محاولات الظلم والنهب والفساد والعدوان، وقدرة ايصال الأفراد إلى كمالهم المطلوب. انه مدرسة تختلف عن المدرسة غير التوحيدية في تقنيته ومراقبته لجميع الشؤون الفردية والاجتماعية، المادية والمعنوية، والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. ولا تغرب عنه أدنى مسألة ترتبط بتربية الإنسان والمجتمع وبالتقدم المادي والمعنوي. لقد بين ما يقف في طريق تكامل المجتمع من موانع ومشكلات، وسعى إلى إزالتها.



-----------


القسم العربي، الشؤون الدولية.